صورة لا تمحى من ذهن كل زائر لبغداد.. تحفة فنية مميزة تتغنى بها احدى ساحاتها حيث يصطف السياح لالتقاط صورة معهاK صورة تعود بناظرها الى ليلة من ليالي الف ليلة وليلة.. انها تمثال كهرمانة التي تصب الزيت على روؤس اللصوص المختبئين في الجرار المستلهمة من قصة ""علي بابا والاربعين لصا"" والمنجز عام 1971.
انامل تزهو بالتألق هي من ابتدعت ذلك النصب، انامل شيخ النحاتين العراقيين وأحد ابرز الناحتين العرب محمد غني حكمت الذي غادرنا الى الرفيق الاعلى في العاصمة الاردنية عمان اثر تدهور حالته الصحية نتيجة عجز كلوي يوم الاثنين المنصرم "ولد في الكاظمية 1929".
عرفته شديد الشرود حين يغرق متأملاً الاعمال الفنية لكنه ايضاً يتميز بشخصيته البغدادية المتميزة ببساطتها في الحديث حين كنت التقيته لعدة مرات في مزرعة الفنان المرحوم سعد شاكر المجاورة لمزرعته حيث يقضيان فترات من وقتهما في انجاز اعمالهما الفنية والتخطيط لها بعيداً عن ضجيج العاصمة في تسعينيات القرن المنصرم . دؤوباً على العمل ورغم تجاوز اعوامه الثمانين الا ان فنه لم يتوقف، فها هي بغداد تستعد منذ اشهر لاحتضان اربعة من اعماله الحديثة لتزين بها ساحاتها خلال الاشهر القادمة "تمثال بغداد والذي يتمثل بامراة تجلس بشموخ وتمثال اشعار بغداد الذي سيزين جانب الكرخ عند مقهى البيروتي التراثي والفانوس السحري الذي سيزين ساحة المسرح الوطني ونصب انقاذ العراق الذي سيزين ساحة الفارس العربي" والاخير اراه الاكثر تعبيراً ضمن هذه الاعمال الجديدة اذ يمثل رجلاً بخمس اذرع يتصدى لسقوط ختماً اسطوانياً سومرياً في اشارة للاصابع الخمسة للانسان العراقي التي كتبت اول سطر في التاريخ.
انامل ""ابا ياسر"" هي ذاتها من زينت احدى بوابات اليونسكو في باريس في الثمانينات وثلاث بوابات لكنيسة نيستا دي لبيرا في ايطاليا وجدارية الثورة العربية في عمّان والعديد من النافورات وبوابات المساجد في البحرين واضافة الى شوارع و ساحات وكنائس بغداد.
هذا المبدع قضى 35 عاماً " 1962-1997" في تدريس النحت في اكادمية الفنون الجميلة ببغداد وهو الذي ادخل اليها مناهج نحت الخشب والحجر ونحت المداليات التذكارية.
على شواطئ دجلة، في جانب الكرخ.. برزت اولى مواهبه وهو طفل اذا راح ينحت اولى اعماله من طينها ثم ما لبث ان كبر حبه للفن لينهي دراسته في معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1953 ومن ثم اكمال مشواره الدراسي الفني الاعلى في روما التي بقي فيها 7 سنوات مغنياً تجربته الابداعية ثم مكللاً انجازاته الاولى بحصوله على جائزة كولبنكيان عام 1964 لافضل نحات ومواظباً على اقامة معارضه التشكيلية الشخصية في روما ولندن وباريس وبغداد طيلة عقود كان اخرها في عمّان في شهر شباط الماضي بـ 40 عملاً برونزياً. اضافةً الى اسهامه في المعارض المشتركة مع فنانين اخرين والذي بدأ مشواره معهم منذ خمسينات القرن الماضي عبر انتمائه الى جماعة اصدقاء الفن "1952" وجماعة بغداد للفن الحديث "1952" وكان عضواً مؤسساً لجماعة الزاوية "1967" وجماعة البعد الواحد.
لقد اعطى هذا الفنان عمقاً فنياً متميزاً ومدلولاً حضارياً اهلته لتتويجه الاخير بجائزة ""تكريم"" للانجازات العربية التي تمنحتها دولة قطر لعام 2011.
واذ كان النقاد يصنفون أعماله بأنها امتداد ومرآة للفن السومري والبابلي والاشوري القديمة اضافة الى استلهامه الحكاية والاسطورة وتوظيفها في الاعمال الفنية المنفذة في الاماكن العامة كتمثال شهرزاد وشهريار والجنية والصياد والسندباد البحري. فاني ارى ان التأثير الاوروبي لفنون النحت الحديث قد مازج هو الاخر هذا الخط الابداعي لدى محمد غني. بل ان النظام التكراري في الكثير من اعماله اراه متأثراً بخط الفنان الفوتغرافي ميشا غوردن ، ويبقى محمد غني مازجاً كل هذه المدارس للخروج بمدرسة مميزة قد لا تضاهيها الا مدرسة النحات الرائد جواد سليم والذي تشرف محمد غني باكمال نصبه الخالد ""نصب الحرية"" في ساحة التحرير حيث توفي جواد سليم قبل انتهاء النصب.
هكذا يرحل علم من اعلام الفن العراقي واقول لكهرمانة لا تبكي على نحاتنا بل اسكبي ماء من نافورتك ونمّي زهوراً فهكذا سيبعث ""ابا ياسر"" زهرة في مدينته بغداد.
كاتب المقال
عدنان يعقوب القره غولي